روائع مختارة | قطوف إيمانية | في رحاب القرآن الكريم | {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > في رحاب القرآن الكريم > {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}


  {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا}
     عدد مرات المشاهدة: 1596        عدد مرات الإرسال: 0

إننا نحيا في ملكوت الله، كون محكم بإتقان، كلما تأملناه رأينا الجمال والإشراق والحكمة والعلم، وكما أتقن الله ملكه وأحكم آياته في خلقه ونظامه بقدرته وعلمه، فقد أحكم آيات كتابه، وجعلها رمزاً إلى آياته في مخلوقاته بقدرته وعلمه، وكما قال الحق أن هذا الكتاب هو آيات تهدينا إليه، فقد ذكر سبحانه أن في هذا الكون أيضاً آيات تبصّرنا به وتدلنا عليه، وكما أبدع الله في آياته في هذا الكون الذي أبدع خلقه، فكان اسماً من أسمائه {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}، كذلك جاء كتابه إعجازاً لا يقدر أن يأتي بمثله أحد، كما وصفه الحق بقوله {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً}.

ونستعرض في هذا الفصل بعضاً من هذه الآيات بقوله تعالى في كتابه العزيز: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ*وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ*وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ*لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:37-40]

نرى الآية الأولى تصف وصفاً جلياً عملية تعاقب الليل والنهار، فالأرض في أي لحظة أو توقيت، يكون نصفها معرض لأشعة الشمس ونورها، والنصف الآخر يكون بعيداً عن أي شموس أو نجوم أخرى، فهو يرقد في ظلام يشمل الكون كله -كما توحي إليه هذه الآية الكريمة- كحقيقة علمية رآها رواد الفضاء مؤخراً، وجاءت بهذا الإعجاز في الآية الكريمة حيث تشير أن الظلام هو الأصل وأن الحادث هو النهار، ولهذا فإن النهار هو الذي ينسلخ عن الأرض فتنغمر الأرض في ظلام الكون مرة أخرى، فعندما تدور الأرض حول محورها يبتعد هذا الجزء المنير الذي شمله ضوء الشمس رويداً رويداً فيتحول نصف وجه الأرض من النهار إلى الليل، ولن يجد العلماء أيضاً وصفاً علمياً لهذا التعاقب أدق وأعمق من هذا النص الذي جاء به القرآن لكريم: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الْلَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ}،وتضعنا هذه الآية أمام قاعدة علمية لحساب اليوم الكامل، تبصّرنا بحكمة الخالق وعزّته، وهو الفرق الثابت بين كل إنسلاخين للنهار أو زوالين أو غروبين للشمس، فنجد أن هذا الفرق ثابتاً لا يتبدل ولا يتغير مهما تغيرت الفصول والشهور والسنوات، وأيضاً أمام حقيقة أخرى علمناها مؤخراً، وهي أن حدوث هذا الإنسلاخ لا يتأتى إلا إذا كانت الأرض تدور حول نفسها في ثبات كامل أمام الشمس، بحيث تنغمس في الظلام عند نهاية النهار، وأنها أيضاً تدور بسرعة ثابتة لا تتبدل ولا تتغير رغم تعاقب السنين والقرون والدهور، بحيث لا يسبق الليل النهار كما تعبر عن هذا آية تالية {وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، من صنع هذا الثبات لكل شيء في فلكه، للأرض وللشمس ولكل كوكب ونجم، إننا أمام حقائق جاءت بدقة متناهية بحيث تعبر عن آية لا تقبل الشك عن عزة الخالق وقدرته وعظمته، فكيف يتأتى الحفاظ على هذا الفرق الثابت بين الإنسلاخين، وعلى هذا الفلك الثابت للأرض -رغم حركتها المركبة حول محورها المائل وحول الشمس، ومع الشمس ومع سقوطها ضمن المجموعة الشمسية بسرعة هائلة في الفضاء الهائل من حولنا-.

إن هذه الآيات الكونية لا تتأتى إلا بتقدير إله عزيز عليم، كما تنبأنا الآية التالية بهذه الأسماء الحسنى لله خالق هذا الإعجاز، عزيز ومنفرد في قدرته وعلمه، إن هذه الدورة المحتومة للأرض حول نفسها، وهذا التعاقب لليل والنهار دون تقديم أو تأخير بهذا الثبات والدقة، قاد الإنسان إلى تعريف الزمان والوقت، حيث قسم الزمن الذي تدور فيه الأرض حول نفسها إلى أربع وعشرين ساعة، وبهذا استطاع البشر أن ينظموا أوقاتهم وحياتهم، وهل يتأتى هذا الإنتظام من تلقاء نفسه؟ وإذا تدبرنا هذه الآية ونظرنا إلى البشر عندما يطلقون عربة صغيرة -يسمّونها بالأقمار الصناعية وهي لا تزيد في وزنها عن أصغر الأحجار على القمر- وتدور حول الأرض لمدة محدودة، ويطلقون معها معدّات لضبط مسارها حول الأرض وتصحيح إنحرافاتها الدائمة، ثم نجدهم يعجزون في معظم الأحوال عن الإحتفاظ بهذا المسار لهذا الشيء التافه حجماً ووزناً لأي مدة تزيد عن عدة شهور، لّعلِمنا عزة وعلم الخالق الذي احتفظ بهذا المسار للأرض ولكل كوكب طوال ملايين وبلايين السنين، دون إنحراف أي شيء عن مساره، إنه حقاً خالق عزيز عليم.

لقد جاء القرآن بهذه الأدلة من الله الذي يعرف السر في السماوات والأرض، ويوجهنا إلى هذه الحقائق والأسرار بأدق التعبيرات أو الكلمات، التي نراها أمامنا في هذه الآيات حتى يهدينا إلى عظمته وجلاله، ونشعر أمامها بعظمة قائلها وصانعها، ونرى عجزنا عن أن نأتي بمثلها صنعاً وعملا وقولاً، فنهتدي إليه وإلى وحدانيته.

ثم تأتي الآية التالية من هذا الآيات بإعجاز عن حركة الشمس، وكيف جعلها الله في جري دائم حتى تستقر في نهاية الأمر طبقاً لأوامر خالقها {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، لقد إعتقد العلماء في القرن الماضي أن الشمس هي مركز الكون وأنها ثابتة في حجمها وكتلتها ومكانها، وأن كل شيء يتحرك حولها، وإعتقدوا ببقاء المادة وعدم نفاذها، واعتقدوا أن للمادة دورات وللزمان دورات فلا ينتهيان، ولكن تأتي هذه الآية لتبين بهذا النص المعجز منذ 14 قرناً من الزمان، أن ما يجري لكل شيء في الكون يجري على الشمس وعلى المادة وعلى الزمان أيضاً، فالشمس تجري وتتحرك وتهوى في هذا الكون السحيق، وهي تتوهج الآن ثم سوف تخبو وتستقر بعد حين، فالشمس تتناقص حجماً ووزناً حتى تستقر وتتلاشى بعد حين.

والشمس وهي تجري -أيضاً- فإنه يجري معها أعضاء مجموعتها المرتبطة بها من الكواكب، وكذلك فالشمس تدور حول نفسها وتديرنا حولها، فهي تجري وكواكبها يجرون من حولها إلى أن تستقر حركتها فيستقرون معها، وهذا ما أكده العلم الحديث في مشاهداته الفعلية، وأرضنا التي نعيش عليها ليست إلا كوكباً من كواكب المجموعة الشمسية التي تجري في ركب الشمس وتنقاد معها وفقاً لتقدير الخالق العزيز العليم، وسوف تستقر حركة الشمس بعد هذا الزمن، وحين تأتي هذه اللحظة سيتوقف الزمان بالنسبة لأهل وسكان المجموعة الشمسية، ولن يدور الزمن دورته، ولن تبقى المادة على حالها كما كان يدّعي الماديون والكافرون والملحدون، فللشمس ميقات ستستقر عنده بأمر خالقها وسينتهي عنده كل شيء، هذا ما أكّده العلم وما تأتي به هذه الآية من خالق الشمس على أن الشمس سوف تستقر بعد هذا الجري الدؤوب، وقد أثبت العلماء أن الشمس كرة من غاز الهيدروجين، وتصل درجة الحرارة في باطنها إلى أكثر من 15 مليون درجة، ويحدث بها أعقد التفاعلات النووية الإندماجية التي سوف تحولها في النهاية من كرة متوهجة إلى كرة مستقرة، ففي هذه الدرجة تندمج ذرتي الهيدروجين المتوهج وتتحولان إلى ذرة من غاز الهليوم الخامل، ويتحول جزء من كتلتي ذرتي الهيدروجين إلى طاقة تزيد الشمس تأججاً وتمنحها الطاقة التي تبعثها إلينا. وقد حاول الإنسان أن يحاكي ما يحدث في الشمس، ولكنه عجز عن هذا، وأدت أبحاثه في هذا المجال إلى إكتشافه للقنابل الهيدروجينية التي تنتج كمّاً هائلاً من الطاقة ينشأ عنها إنفجارات مدمرة، وهكذا لم يتمكن البشر إلا في إستخدامها للتدمير وليس لعمارة هذا الكون كما يحدث في شمسنا بأمر الله.

وقد عجز البشر حتى يومنا هذا أن ينتجوا الطاقة الكهربائية بإستغلال تفاعلات إندماجية كالتي تحدث في الشمس، وكي ترسل الشمس كل هذه الحرارة فإنها تحرق في كل ثانية 600 مليون طن من مكوناتها من الوقود الهيدروجيني، وهكذا يتحول غاز الهدروجين بعد احتراقه أو اندماجه إلى غاز الهليوم الخامل بإستمرار وثبات ودون توقف، على مدى الأيام والقرون والدهور، وينطلق من الشمس مع هذا التحول في كل ثانية كمّاً من الطاقة يكفي ما تحتاجه الأرض لمدة مليون سنة كاملة، ولكن هذا الكمُّ يتوزع على الكون بأكمله ويكون نصيب الأرض من هذا الكمّ قدر محدد لها يكفيها دون زيادة أو نقصان، وهكذا فإن الشمس تتغير وتبدأ من غاز الهيدروجين الذي يجري له أو به هذا الكمّ الهائل من التفاعلات والإندماجات، ثم ينتهي إلى كرة من غاز ساكن أو خامل هو الهليوم، ولا يبقى لها في النهاية وقود يقاوم قوة جذب كتلة هذا الغاز الخامل، فيتقلص نجم الشمس بتأثير وزنه، وتصير الشمس في النهاية قزماً ساكناً أبيض، أو ثقباً أسود في هذا الكون كما حدث في ملايين النجوم الأخرى، التي كانت مثل شمسنا وجرى لها ما سيجري لشمسنا بعد فترة قدّرها العلماء بحوالي 500 مليون سنة كي تتحول إلى هذا القزم الساكن.

والآن ما الذي يحتفظ للشمس بهذا الجري والتفاعل بهذا الثبات الممتد عبر ملايين السنين التي نشأت أثناءها الحياة على الأرض، والتي تكونت خلالها الأرض؟ إن الشمس لو بردت بأقل عدد من الدرجات عن درجتها الحالية التي تقدر بملايين الدرجات، فسيؤدي هذا إلى إنخفاض معدلات الإحتراق بها إلى النصف، وهذا ما يؤكده العلم الحديث، وبهذا تقل الطاقة التي تصل إلى الأرض فتتجمد الأرض، ولو زادت بضع درجات لتضاعفت معدلات الاحتراق وتزيد معها الطاقة التي تصل إلى الأرض فتحترق -أيضاً- الأرض، ثم إذا نظرنا إلى الشمس وهي تحترق وتقل كتلتها بملايين الأطنان في كل ثانية، فلنا أن نتعجب: هل هذا النقص الدائم في كتلة الشمس له الأثر على أفلاك الكواكب من حولها؟

النظريات العلمية تؤكد أن تتأثر هذه الأفلاك فتبتعد الأرض عن الشمس، ولكن لو حدث هذا فستتجمد الحياة على الأرض، وهذا لم يحدث خلال الملايين من السنين التي هي عمر الأرض. لقد حار العلماء في فهم أسرار هذه الشمس بحيث تظل بهذا الثبات لها ولمن حولها، وجاء هذا النص من الخالق أنه هو الذي قضى عليها بهذا الثبات، فأودع هذا التعبير في كتابه بأرفع المعاني والكلمات {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم}، حقاً إنه عزيز في قدرته وتقديره، عليم يحيط بعلمه كل شيء.

والعلم لا يستطيع أن يصل إلى سر جري الشمس بهذا الثبات في تفاعلاتها، وفيمن تجريهم حولها، ويأتي كتاب الله ليعلن أن هذا جاء بتقدير إله قدير {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}، هو من صنعه وحده وتقديره وحده وبعلمه وحده، وهذه الكلمات جاءت منه وحده.

ثم نأتي إلى الآية التالية التي تصف إعجاز الخالق في حركة القمر، هذا الكوكب الصغير الذي يدور حول الأرض كتابع مطيع يعكس لها في ظلمة الليل جزءاً من ضوء الشمس الساقطة عليه، وله حركته المعقّدة في الأماكن التي ينزل إليها بحيث تكون له دورة ثابتة، فتتوافق حركته حول الأرض مع حركة الأرض حول نفسه وحول الشمس، بحيث تستغرق كل دورة شهراً كاملاً، يبدأ فيه القمر بدراً ثم يتلاشى شيئاً فشيئاً في توقيتات أو مواقيت محددة، وتتغير أشكال القمر بحسب مواضع نزول أشعة الشمس الساقطة عليه وما تحجبه الأرض عنه من هذه الأشعة، إنها حركة مركّبة لا تستطيع أن تسيّرها الصدفة، كيف تسير بهذه الطاعة والدقة المتناهية فتكون لها هذه الأشكال المتدرجة صعوداً أو اتساعاً وهبوطاً أو ضيقاً، وتأتي آيات القرآن معلنة بإعجاز أن هذه الآية المعجزة هي من صنع الله، فيعلمنا الله أنه هو الذي قدر للقمر هذه المنازل حتى يصير له هذا الإنتظام في كل التوقيتات والأشكال على مدى الشهر الكامل، وفي كل شهر وعلى مدى الدهر كله بقوله سبحانه {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}.

إنه إعلان من الخالق أنه هو الذي دبّر وقدّر للقمر منازله بهذه الكلمات المعدودة، التي حدد الخالق فيها ما حار العلماء في تفسيره، ولم يصلوا إلى سرّه عن حركة القمر المعجزة. ثم تأتي الآية بهذه التشبيه المعجز لتصف آخر مراحل القمر عندما لا يكون في منزل يسمح بسقوط أو وصول ضوء الشمس إليه، فيكون على شكل عرجون النخيل القديم أو اليابس إلى يوشك على الفناء بقول الله سبحانه وتعالى {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ الْقَدِيمِ}، أي حتى يتقوّس من القِدم ثم يفنى، ثم يعود كما بدأ إلى منازله مرة أخرى، فيسمح لضوء الشمس بالانعكاس عليه ليعاود الظهور إلى أن يعاود الاختفاء، إنها دورات لا تحدث إلا بتقدير عزيز عليم تنبئ عنها كلمة {عَادَ}، فالعودة تتكرر وتتكرر بتقدير عزيز عليم. أيّةُ دقة علمية هذه، وأي سردٍ لحقائق علمية متكاملة بحيث تظهر الحق وتبدد الحيرة في كل ما يدور بهذا الإعجاز؟ إنه إعجاز من عند الله.

ثم تأتي الآية الرابعة لتؤكد بإعجاز شامل أن حركة كل شيء في هذا الكون تتم فعلاً بانضباط كامل ومقدر بقول الحق: {لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ الْلَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}، هكذا جاء قول الحق عن هذا الثبات لكل شيء من حولنا في أفلاكه، فللشمس أفلاكها الثابتة وللقمر أفلاكه الثابتة، وبالرغم من أن الأرض من توابع الشمس تدور حولها وحجم الشمس أو وزنها يزيد آلاف المرات عن حجم الأرض ووزنها، لكن لا تطغى الشمس على القمر، هذا التابع الضئيل للأرض الصغيرة والتابعة لها، فلا تحوّله إليها أو تدركه بقوّتها وحجمها ووزنها، وجذبها الجبار الذي يتضاءل أمامه جذب الأرض، ليس هناك سبب ألا يحدث هذا إلا أن يكون هناك التزاماً من الشمس والقمر بالسير والسباحة، أو التسبيح المحدد بالكلمات أو بالحركات في أفلاك ثابتة لا حيود عنها.

وكذلك فالأرض لها تعاقبها ودورانها حول نفسها، ولا يختل هذا الدوران مهما تعاقبت السنين والقرون، فزمن الدورة أربع وعشرون ساعة، ولا يأتي ليلين أو نهارين متعاقبين، بل ليل يعقبه نهار، ويكوّنان معاً اليوم من أربع وعشرين ساعة في ثبات تام يعجز عن تخيل أسبابه العقل البشري.

وكذلك الأرض -ويصاحبها قمرها- تدور دورة كاملة كل سنة أو كل 365 يوماً وربع اليوم حول الشمس، لا يتبدّل أو يتغير زمن هذه الدورة على مدى القرون والدهور، وكذلك الشمس  -ومعها منظومتها الشمسية كلها بما فيها الأرض والكواكب الأخرى- تدور حول مركز المجرة مرة كل 200 مليون سنة، ومجرتنا التي تمثل المجموعة الشمسية إحدى أفرادها، لها أيضاً دورتها حول نفسها وحول مركز الكون الذي لا يعرف سره سوى الخالق.

والآن، من يحفظ هذا الثبات والإستقرار في دورات الشمس والقمر ودورات الليل والنهار وكل الدورات الأخرى؟ لا تعليل لهذا إلا أن كل هذه السباحة لكل كوكب أو نجم ما هي إلا نوع من أنواع التسابيح، يسبح بها هذا الكون لخالقه كما جاءت الآية الكريمة {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. إنه تسبيح دائم ومستمر لكل ما في هذا الكون، و{كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} و{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.

هكذا جاءت كلمات الله معبرة بكل إعجاز عما يعجز الإنسان عن فهم أسبابه في هذا الكون، فتتبدد حيرته عندما يكون القائل هو خالق هذا الإعجاز الذي أرسل إليه هذا الكتاب رحمة من عنده لهدايتنا والخروج بنا من الحيرة والضلال، وإذا أمعنا التدبّر في كلمة {يسبَحون} بالباء المفتوحة و{يسبِّحون} بالباء المشددة والمكسورة، فسنجد أن القرآن قد جاء بهذه الكلمة الجامعة لما تؤديه الكواكب والنجوم والشمس والقمر من سباحة منتظمة في أفلاك ثابتة وأن هذا ليس إلا تسبيح أو طاعة ملزمة لكل الكواكب والنجوم لخالقها ومسيّرها.

والسؤال الآن: هل نستطيع كبشر بعد أن علمنا عن الأرض والقمر والشمس والليل والنهار والأفلاك والمسارات أن نعبّر عن معجزات هذه الأشياء ودلالاتها في بضعة سطور يفهمها العالم المتعمق بقدر علمه، والإنسان البسيط بقدر نقائه؟ وهذا على مرّ العصور دون توقّف، وبهذا الإعجاز التام دون أن يأتيها الباطل في أي من هذه الأزمان؟ لقد عرضت هذه الآيات الحركات والأفلاك التي تتحرك فيها الأرض والشمس والقمر وأنها جميعاً تدور بإعجاز إله عزيز عليم، تسبيحاً وطاعة له والتزاماً وانصياعاً لأوامره، فله وحده النهار والليل والحركات والسكنات والأقدار والمصائر. إنها آيات إله يرى الكون الذي خلقه كله بامتداده وجماله وإعجازه وإبداعه، ثم يركّز أبصارنا على ما يمكن أن نراه من هذه الآيات التي تدل كلها على جلاله وعظمته، ويراها الناس في كل العصور مهما بلغ علمهم ورؤاهم، ولهذا تبدأ الآية بقول الحق {وَآيَةٌ لَّهُمُ}.

 إنها فقط إحدى الآيات التي يبصّرنا بها الخالق في كونه، ولكن في الكون آيات وآيات يجب أن نتدبرها حتى نستحق ما أنعم الله به علينا من نعمة العقل والعلم. وتكفي هذه الإشارة من الخالق التي جاءت بهذه السمو وهذا الإعجاز، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُون}

الكاتب: د.سلامة عبد الهادي.

المصدر: موقع طريق الإسلام.